تعرف الجزائر في العشرية الأخيرة العديد من ورشات الإصلاح لعل أهمها و أجرأها ورشة إصلاح المنظومة التربوية، هذه الأخيرة ـ المتهمة بتفريخ الإرهاب فكرا و عملا أو تنفيذا ـ تعرضت لجملة من الانتقادات في ظاهرها منطقية و في باطنها تخفي نوايا الإساءة للمجتمع ككل بمعنى آخر قول حق أريد به باطل.
لقد قامت مجموعة بن زاغو بإعداد إصلاحات تعتبر جذرية و ذلك بمحاولة تغيير المناهج التعليمية أسلوبا و مضمونا لكنها في الأخير و بالانتقال إلى التنفيذ تأزمت الوضعية التربوية أكثر مما كانت عليه بحيث أصبحت تصبح على قرار و تمسي على آخر يلغيه أو يعدله. لماذا هذا التذبذب و لماذا هذا التسرع في إصلاح مؤسسة تعتبر منشأ الأجيال و مستقبل البلاد؟
1)ـ مآخذ المنظومة التربوية:
يؤخذ على منظومتنا التربوية عدم مسايرتها للتطورات الحادثة على المستوى الدولي و الداخلي لاعتمادها على أساليب تقليدية مبنية على التلقين في حين أن التعليم في الوقت الحاضر يعتمد على التفكير و التحليل و منه تنتقل إلى مرحلة الإتقان و الإبداع الفكري و العملي.
كما يؤخذ عليها انغلاقها و عدم تفتحها و تميزها بالأدلجة خاصة الإسلامية منها في حين أن العالم يسير نحو الانفتاح و خاصة بعد تطور الوسائل التكنولوجية الحديثة.
لكن المأخذ الرئيس في كل هذا هو أنها منظومة مسيسة و مستغلة من قبل النظام الحاكم لإلهاء أبناء الأمة عن أهدافهم و تطلعاتهم و جعلهم متخندقين كل حزب بما لديهم فرحين و هذا ما حد من فعاليتها العملية لعدم تواجد إرادة سياسية صادقة و واضحة تعمل على تحييدها و جعلها في منأى عن الصراعات الوهمية التي يزج بالشعب فيها مثل مسألة الهوية و اللغة و الإسلاموية....
2)ـ الإصلاحات المنتهجة:
انتهجت الدولة الجزائرية عدة إصلاحات كان أولها أمرية نوفمبر 1976 التي تمثل بداية إرساء أسس و قواعد المنظومة التربوية في الجزائر.
إلا أن الوضع لم يستمر على هذا النهج حيث بدأ التذبذب الحقيقي لمنظومتنا بداية من 1991 عند انتهاج ما يعرف بالتعليم التأهيلي الذي لم يستمر إلا سنة واحدة أدى إلى إضاعتها من أعمار الشباب، حيث أن الطلبة الذين اختاروا التعليم التأهيلي تم السماح لهم بإعادة السنة في النظام التعليمي الأكاديمي بعد إيهامهم بأن مجالات العمل ستكون مفتوحة أمامهم بمجرد حصولهم على مستوى السنة الثالثة ثانوي تأهيلي مع العلم أن الجزائر تتميز بمنظومة تكوين و تأهيل مهني منفصلة عن التعليم النظامي الأكاديمي كما أن الأزمة المالية التي كانت تتخبط فيها البلاد لا تخفى على أحد فلماذا هذا التذبذب الإجابة عند أصحاب القرار مع العلم أن هذا الإصلاح لم يحظى بالدراسة و الاهتمام اللازمين من قبل الباحثين و التربويين و هذا بحسب اطلاعنا.
إلا أن أكبر ورشة أقيمت لإصلاح المنظومة التربوية هي ما يعرف بإصلاحات بن زاغو التي بحسب اطلاعنا لم تأتي بالجديد إلا تغيير و تشويه مضمون البرامج التعليمية من خلال الأخطاء الكثيرة الموجودة خاصة في الكتب المدرسية التي أصبحت تدر المال الوفير على أصحابها، إضافة إلى محاولة تدعيم اللغة الفرنسية من خلال فسح المجال أمامها في الطور التعليم الأول و ذلك على حساب اللغة العربية، و إن كان تعلم اللغات ليس بإشكال أساسي و إنما افتعاله في الجزائر ساهم في وجود صراع بين مشروعين للمجتمع الأول تجسده القمة و الثاني تجسده القاعدة. إضافة إلى هذا و في سبيل إنجاح هذا الإصلاح انتهجت سياسة إعادة رسكلة القائمين على شؤون التعليم و خاصة الأساتذة و المعلمين و إن كنا لا نرى فائدة ترجى من هذه الرسكلة لعدم رغبة الأستاذة فيها أصلا.
و في حقيقة الأمر فإن هذا الإصلاح هو إصلاح سياسي أكثر منه إصلاح حقيقي لمنظومتنا التربوية و إلا كيف يبقى وزير في منصبه لمدة 13 سنة رغم الاحتجاجات التي عرفها و يعرفها القطاع.
3)ـ الإشكالات الأساسية في منظومتنا التربوية:
في الحقيقة الأمر من خلال تتبعنا لوضعية منظومتنا التربوية بحكم أننا من إنتاجها و بحكم قربنا اليومي منها فإنه يمكننا إجمال الإشكالات التي تعاني منها في العناصر التالية:
أ) إشكالية التسرب المدرسي: حيث يلاحظ تفشي لهذه الظاهرة على جميع المستويات التعليمية خاصة بالنسبة للذكور و ذلك لجملة من الأسباب على رأسها أن التعليم في وقتنا هذا لا يؤدي إلى نتيجة مرضية من الناحية المادية فأكبر نسبة للبطالة توجد بيم خريجي الجامعات كما ان فتح مجالات مهنية لا تستدعي تكوينا علميا عاليا أدى بالشباب إلى ترك التعليم و التوجه للانخراط في هذه المجالات و التي على رأسها الشرطة و الجيش.
ب) إشكالية العنف المدرسي: فالملاحظ أن جرائم الضرب و الجرح و القذف و حتى القتل أصبحت من الظواهر المتفشية في مؤسساتنا التربوية و هذا ليس من قبيل الصدف و إنما هو نتاج تفاعلات اجتماعية و سياسية و اقتصادية أدت إلى استفحال هذه الظاهرة التي لا يمكن معالجتها قضائيا أو إداريا و إنما من خلال معالجة أسبابها.
ج) إشكالية تأطير: تعتبر إشكالية التأطير إشكالية الإشكاليات فأغلب المؤطرين ليس لديهم مستوى تعليمي عالي الأمر الذي حد من أدائهم التعليمي ناهيك عن التربوي هذا من جهة، من جهة ثانية تعاني المؤسسات التربوية من نقص التأطير و في سبيل تغطية العجز تلجأ إلى سياسية الاستخلاف التي تجعل من عطاء المؤطر محدود لعدم ارتباطه بمنصب عمل دائم لكونه في حالة بحث عن عمل الأمر الذي يجعل علاقته بمنصبه علاقة ميكانيكية و ليست علاقة عضوية تفاعلية. المسألة الأخرى التي يمكن إدراجها تحت هذا العنصر هي الظروف المهنية و الاجتماعية التي يحياها المؤطرون و التي لا تسمح لهم بإعطاء اهتمام أكبر لعملهم و المتمثل في التأطير و التكوين.
د) إشكالية فراغ: و هي من الإشكالات العامة، حيث أن مسألة تأطير التلاميذ خاصة خارج أوقات التعليم الرسمية تبقى عملية فردية و غير جماعية أو مؤسساتية. و ذلك رغم إقامة النوادي و المراكز الثقافية إلا أنها غير جاذبة سواء للتلاميذ و حتى للشباب نتيجة التسيير البيروقراطي الطاغي عليها، مما جعل الملاذ الأهم و الأمن لهم هو الشوارع و الأحياء الشعبية و السكنية.
هذه مجمل الإشكالات و التي يمكننا أن نضيف لها أمور أخرى مثل غياب دور الأسرة و قلة الاهتمام بالتلاميذ و دراسة مواهبهم و شخصياتهم و قياس ذكائهم بهدف التوجيه و الإرشاد كما أن عقلية التصغير و الاستخفاف و التحقير حدت من انطلاقهم في طريق العلم و النجاح و هذا يلاحظ عند الذكور أكثر من الإناث اللواتي يرين مستقبلهن في تعلمهن.
4)ـ التفسير السوسيولوجي لهذه الإشكالات:
الحقيقة أن مسألة الإصلاح و حتى تكون ناجحة و ناجعة لابد أن تكون نابعة من ذات المجتمع و قيمه و عاكسة لشخصية أبنائه و لذلك فإن الإصلاحات الفوقية التي انتهجتها الدولة الجزائرية لم تجد صداها على مستوى القاعدة. و قد أرجعت الأسباب إلى خطأ في التطبيق نتيجة التسرع في إجراء الإصلاحات إضافة إلى عدم تهيئة المعنيين بتنفيذها و توضيح كيفية إجراء هذا التنفيذ.
إلى أن الأمر من الناحية السوسيولوجية لا يمكن تفسيره إلا من خلال عامل المقاومة، مقاومة هذه الإصلاحات من قبل المعنيين بها و ذلك عن طريق ظهور الإشكالات السابق الإشارة إليها كالتسرب و العنف هذا من قبل التلاميذ أما من قبل المعلمين و الأستاذة فإنهم يمارسون المقاومة السلبية و ذلك من خلال تضخيم العلامات و تسهيل الامتحانات و ترك الفرصة للتلاميذ للغش في الامتحانات خاصة في البكالوريا و هذا بتواطؤ مع الإدارة الملزمة بتقديم تقرير في آخر السنة عن حصيلتها التعليمية و من الضروري أن تكون إيجابية.
لماذا كل هذا التمييع لمنظومتنا التربوية أليس منا رجل رشيد. إن القضية تتعلق بكيفية المعالجة التي جاءت بقرار فوقي و ليس استجابة لحاجة اجتماعية الأمر الذي سيبقي دار لقمان على حالها إلى أن يتنبه أصحاب القرار إلى ضرورة إعادة النظر في سياساتهم و جعلها تتماشى و تطلعات من يمثلونهم.
نعيم بن محمد