القراءة من المصدر
تصنف وحدات الطب المدرسي من أهم دعائم الصحة العمومية. فهي السباقة إلى التعرف على الأمراض المستشرية في الأوساط التعليمية، زيادة على خوضهم حملات التلقيح التي أضحت في الآونة الأخيرة كابوسا يطارد الأولياء خشية فقدان فلذات أكبادهم.
وقد أسهم الطب المدرسي من خلال تخصصاته المختلفة "الطب العام، طب الأسنان، الطب النفسي، الأرطوفونيا" في اكتشاف العديد من الأمراض التي يعانيها الأطفال، كضعف البصر والربو، بل وحتى حالات توحد لم يتفطن إليها أولياء أمورهم. "الشروق" التقت بمختصين في الصحة المدرسية بثانوية حسيبة بن بوعلي وتعرفت على ظروف عملهم والأمراض المنتشرة لدى التلاميذ.
بدا كل شيء هادئا ومرتبا داخل قاعة الفحص والتمريض بثانوية حسيبة بن بوعلي، وقد تزامنت زيارتنا مع فترة الامتحانات، ما جعل التلميذات يترددن بشكل متقطع على القاعة. شرعنا بالتحدث إلى المختصة في الطب المدرسي، الدكتورة أكليل، التي تفوق خبرتها في هذا المجال 34 سنة، تقول: تنتشر في أوساط التلاميذ العديد من الأمراض كالربو، ضعف البصر، وحاليا سجلنا حالات "سكوليوز"، وهو مرض يصيب الظهر في وسط تلميذات الثانويات وسببه ثقل المحافظ. وما يلاحظ، إصابة المتمدرسين من الابتدائي إلى الثانوي من مختلف الطبقات الاجتماعية بحالات فقر الدم، التي سببها الأكل السريع، زيادة على مشاكل في الغدة الدرقية واكتشاف حالات إصابة بالسكري، إضافة إلى انتشار الإصابة بالقمل في المدارس العمومية والخاصة على حد سواء بأعداد كبيرة خلال الموسم الدراسي الماضي والسنة الحالية.
واعترفت المختصة بمصادفة أطباء المدارس بعض المعوقات والمشاكل. ففي بعض الأحيان يكتشفون حالة تستدعي المتابعة لدى طبيب مختص كالغدة الدرقية أو ضعف البصر، وتقل هذه التخصصات في المستشفيات العمومية وحتى وإن وجدت فسيكون الطلب عليها كبيرا جدا، فمواعيد طب العيون تصل حتى 4 أشهر، فالأولياء الذين يملكون إمكانات مادية ينقلون أطفالهم إلى الخواص، أما الآخرون فينتظرون المواعيد الطبية فتزداد وضعيتهم الصحية تدهورا وخطورة. لذا، لابد من توفير هذه التخصصات في الصحة المدرسية.
الطب ساعد في اكتشاف حالات توحد لم يتفطن إليها الأولياء
يعاني بعض التلاميذ من مشاكل نفسية. وهو ما يمكن للطبيب ملاحظته أو بالاستماع إلى ما يطلعهم به المعلمون والمعلمات، فيتم توجيههم إلى الأخصائية النفسية أو المختصة في الأرطفونيا. تحكي الطبيبة أكلي: نصادف حالات لتلاميذ يعانون من مشاكل عائلية، طلاق الوالدين أو فقدان أحدهما فيتأثر نفسيا.. لذا، لابد من توجيهه إلى الأخصائية. نصطدم مرات برفض الأولياء الأمر، فمرة طلبت من ولي تلميذ بمدرسة 24 فيفري عرضه على النفسانية، فرد علي: "وليدي ماشي مهبول"، هذه العبارة نصادفها باستمرار. وهناك من يرفضون، وبعد مرور الوقت يلاحظون سلوكه فيتيقنون من ضرورة عرضه على النفساني، أما الذين يواجهون صعوبات في النطق فيستفيدون من المتابعة لدى المختصة في الأرطفونيا. وذكرت محدثتنا أن الطب المدرسي قد ساعد في اكتشاف حالات توحد لدى تلاميذ الطور الابتدائي لم يتفطن أوليائهم إلى مرضهم وتم وضعهم في أقسام خاصة تحت إشراف معلمين ونفسانيين، وبفضل العلاج المكثف والمتابعة تمكنوا من الخروج من القسم الخاص في السنة الثالثة والتحقوا بأقسام عادية.
وقصت علينا المختصة حكاية تلميذ في الابتدائي كان لا يستجيب عندما تتحدث إليه فاعتقدت أنه مصاب بالتوحد، فاستدعت والدته ووجهته إلى مختص في علم النفس لتأتي المسكينة وتخبرها برفض زوجها ذلك بحجة "وليدي لا باس عليه ماشي مهبول"، وفي كل مرة تعيد استدعاء الولي تأتي الأم وتؤكد أن زوجها يرفض الأمر جملة وتفصيلا، وظل الطفل على تلك الحال لمدة 4 سنوات.. ولما رضخ والده للأمر الواقع اكتشفت الطبيبة معاناته من فقدان حاسة السمع، وهو ما يمنعه من التجاوب والتواصل مع محدثه ليقوم بعدها بتركيب القوقعة الخاصة.
وحالة أخرى لأطفال ضحايا إهمال الأولياء وهما توأمان في مدرسة ابتدائية يعانيان من النشاط المفرط، حيث يحدثان فوضى عارمة في الفصل لكثرة الحركة والصخب والفوضى التي يحدثانها، وبالرغم من توجيههما إلى الأخصائية النفسانية عدة مرات لكن والديهما يرفضان الأمر. وواصلت المختصة: لقد أصبح هذا المرض "النشاط المفرط" منتشرا بكثرة، ففي كل مدرسة توجد حالتان إلى ثلاثة مصابين به. وهو ما يتطلب المتابعة لدى نفسانية في سن مبكرة حتى يتحسن.
ولأن فترة الامتحانات يكون فيها التوتر عاليا جدا، فمرة في البكالوريا أصيب أحد الممتحنين، كان يختبر في مؤسسة عبد الكريم العقون، بنوبة آلام أسنان، وتزامنت مع امتحان مادة العلوم الطبيعية، فلم يقو على التحمل، ومع أنني منحته المهدئات والقهوة، لكن الألم بقي ملازما له وأراد الخروج، لكنني منعته. وبمرور الوقت هدأ الوجع وخف وعاد لاستكمال اختباره.
أولياء مستقيلون من متابعة أبنائهم ويطالبون بإعفائهم من الرياضة
يحرص طبيب الصحة المدرسية على متابعة التلميذ وتطور حالته الصحية، تقول الطبيبة أكلي: بعد تشخيصنا المرض نسلم التلميذ "ورقة الوصل". وهي مقسمة إلى قسمين، الأول يكتب فيه الطبيب ملخص تشخيصه المبدئي للحالة، ويطلب من المختص أن يرد عليه في القسم الثاني من الورقة. ويعاودون استدعاء التلاميذ الذين يتأخرون في جلب رد الطبيب في كل مرة. وزيادة على هذه المهام يقدمون حصصا تحسيسية حول فطور الصباح، نظافة الجسم والبدن، التدخين، المخدرات.. ويتفاعل معها التلاميذ.
واستطردت الطبيبة: مشكلتنا تكمن في بعض الأولياء، فهم لا يساعدوننا. وعندما يتعلق الأمر بمادة التربية البدنية، تجدهم يتوافدون على الثانوية ويطلبون منا منح بناتهن الإعفاء من ممارسة الرياضة بحجة ابنتي ترتدي الحجاب أو الجلباب دون عذر طبي. وهو الطلب المرفوض. فالإعفاء يستوجب ملفا طبيا، خصوصا أن بعض الخواص يتاجرون بهذه الشهادات.
عمل دائم وتوافد مستمر للتلميذات المريضات
وعن الحالات التي يستقبلونها يوميا، تحكي المختصة في الطب المدرسي في ثانوية حسيبة بن بوعلي: نستقبل فتيات مصابات بآلام الرأس، الأسنان، آلام في البطن بعض الأمراض البسيطة، فنمنح لهن مسكنات ويزداد عدد الوافدات خلال فترة الامتحانات والتصحيح. وأثناء حديثنا دخلت فتاة إلى العيادة وطلبت من الطبيبة مسكّنا للألم، فاستفسرتها حول فطور الصباح فردت عليها: نعم تناولته، فقامت بمنحها المسكن لتتناوله وتغادر الغرفة.
مختصة في طب الأسنان: نحو 80 بالمائة من المتمدرسين يعانون من مشكل التسوس
أوضحت المختصة في طب الأسنان المدرسي رباين نهار دليلة، إصابة أعداد كبيرة من المتمدرسين بتسوس الأسنان، حيث تتراوح نسبته ما بين 75 إلى 80 بالمائة. والغريب انتشاره حتى لدى تلاميذ التحضيري. وهو أمر جديد ومرده إلى سوء التغذية. فتوجه الطبيبة رسالة إلى الولي حتى يصطحب ابنه إلى العيادة العمومية التي تعمل بها الطبيبة وهناك تتولى عملية خلع الأسنان المسوسة.
وتكمل المختصة: هناك مشكل آخر. بعض التلاميذ يعانون من اعوجاج الأسنان. فلابد من وضع آلة لتقويمها، لكن سعر الجهاز لدى الخواص مرتفع جدا فالجزء العلوي والسفلي بـ 7 ملايين سنتيم، أما المستشفيات العمومية فهناك مصلحة واحدة بمستشفى مصطفى باشا تشهد ضغطا كبيرا. وقد بدأ التلاميذ من سن 11 إلى 12 سنة يهتمون بتقويم وتجميل أسنانهم. وتحتل "اللمجة" السيئة التي يحملها معهم التلاميذ يوميا إلى المدارس من كرواسون، شكولاطة، وغيرها مسؤولية تنامي التسوس.. فقد تحولت الساحة إلى فضاء للتفاخر والتباهي بما حملوه من لمجة، خصوصا في المدارس الخاصة، فيتفاخرون بأنواع الشكولاطة والبسكويت، المستوردة، باهظة الثمن.
وتقول المختصة نهار دليلة: التلاميذ الآن لا يتناولون فطور الصباح. يغادرون المنزل بمعدة فارغة. وهناك من يأكل الحلويات والمشروبات الغازية في كل وقت، دون حسيب أو رقيب، حتى في وقت الغداء يتناولون وجبات سريعة، بيتزا.. لذا يعانون من فقر الدم والتسوس. ولا تقتصر الظاهرة على الابتدائي، بل حتى في الثانوي يتناولون "الشيبس" بأعداد هائلة.
ومع أن المختصين في طب الأسنان يقدمون نصائح لهم حول كيفية غسل الفم ويخرجون التلاميذ إلى الحمامات حتى يتلقوا درسا تطبيقيا في طريقة تنظيفها، لكن البعض منهم لا يملكون حتى فرشاة ومعجون أسنان، والبعض الآخر يتحججون بعدم سماح أوليائهم لهم بتنظيف أسنانهم قبل النوم.