امتاز أسلوب القرآن
بخصائص عظيمة باهرة ، أزهتْ طابعه المعجز لغة وبلاغة ، وتعددت تعددا كبيرا . لكن
استقصاء مزاياه شأن بعيد المنال دونه خرط القتاد ، فإنه علم استأثر به منزله الذي
عنده علم أسرار الكتاب ، لكنا لن نحجم عن الإدلاء بدلو يروي ظمأ المتطلع ويشفي
غلته ، فما لا يدرك جله لا يترك أقله . ونذكر بعضا منها فيما يلي :
1- تميز
النظم القرآني:
اشتمل القرآن على أفصح ألفاظ العربية وأعذبها ، وإن هذه الألفاظ وإن كانت
معهودة استعملها العرب قبل الإسلام وبعده ؛ فإن القرآن قد فاق جميع كلامهم وعلا
علوا شامخا ، وما ذاك إلا لحسن السبك وروعة التأليف . فقد تحسن الكلمة في مورد
ويتألق فيه جمالها ، لتعانقها مع ما حولها ، بينما تبرز شوهاء شنيعة في موقع آخر ،
قال ابن الأثير :
" قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر ؛ فجاءت في القرآن
جزلة متينة ، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ، فأثّر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين ؛
أما الآية فهي قوله تعالى: ) فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان
يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق ( [1]
وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي :
تلذ له المــروءة وهـي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغـرام [2]
وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة ، إلا أن لفظة
" تؤذي " قد جاءت فيه وفي الآية من القرآن ، فحطت من قدر البيت لضعف
تركيبها ، وحسن موقعها في تركيب الآية .
فأنصف أيها المتأمل لما ذكرناه ، واعرضه على طبعك السليم حتى تعلم صحته ، وهذا
موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة ؛ وإمعان نظر ، وما تعرض للتنبيه عليه أحد قبلي ،
وهذه اللفظة التي هي " تؤذي " إذا جاءت في الكلام فينبغي أن تكون مندرجة
مع ما يأتي بعدها متعلقة به كقوله تعالى : ) إن ذلكم كان يؤذي النبي( وقد جاءت في
قول المتنبي منقطعة ، ألا ترى أنه قال " تلذ له المروءة وهي تؤذي " ثم
قال :" ومن يعشق يلذ له الغرام " فجاء بكلام مستأنف ) [3]
إن الكلام إذا جاء شر منظوما ، ورد زاخرا بالعواطف قوي الإيقاع ، مما يعوقه في
معظم الأحيان عن إبانة المعاني المقصودة تفصيلا وسرد الحوادث إسهابا ، وإذا كان
الكلام نثرا فَقَدَ ، على الأغلب ، كثيرا من الحرارة فأبان عن المعاني بفتور
ظاهر ، يحتاج معه الكاتب إلى الاستشهاد بآية من كتاب الله المجيد أو بيت من الشعر
. أما القرآن العظيم فقد امتاز بنظمه الفريد المتسق مع المعاني والأغراض ببيان
ساطع شاف كاف . ولم يمنعه الإسهاب وحسن البيان من الاشتمال على الإيقاع الملائم
والقدرة على إثارة المشاعر الحارة وقوة التأثير في القلوب ، حتى راح الكتاب والأدباء
يفضلون الاستشهاد بآية من القرآن المبين ، لتزدان به آثارهم الأدبية. [4]
لقد نقض النظم القرآن العظيم عادة العرب فيما ائتلفوا عليه من ضروب الكلام من
شعر ونثر ورسائل وحكم وأمثال ، فإنه كما قال الإمام الرماني : ( فأتى القرآن
بطريقة مفردة خارجة عن العادة ، لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة
)[5] .
2- إحكام سبك القرآن :
فالألفاظ القرآنية
متعانقة متماسكة آخذ بعضها بأعناق بعض ، حتى تراها سلسلة رقيقة عذبة متجانسة أو
فخمة جزلة متآلفة .فالكلمات متآخية متجاوبة جرسا وإيقاعا ونغما ؛
متلاقية منسجمة معنى ودلالة وتأثيرا نفسيا ووجدانيا ؛ على أرو ع مستوى يطيق البشر
تصوره . وإنما قُصدت كل كلمة فيه بذاتها لما تشيع به من مغزى ب؛وتحققه من تجانس
وائتلاف . فلو استبعدتها لم تقدر أن ترصف مكانها كلمة أخرى تقوم مقامها . ويستحيل
أن تستغني عن كلمة منه دون إخلال بالمعنى المقصود من الآية ، فكل كلمة تنبض في
شرايين الكلام مغزى جديدا لا تبثه غيرها . فمهما كررت تلاوة القرآن المجيد فلن تقف
فيه على تزيد أو نقص أو ترادف في الكلمات ، فلا مترادف في القرآن . لقد اختيرت كل كلمة فيه لمغزاها ومدلولها ولصفاتها
الذاتية من رقة وسلاسة أو فخامة وجزالة ، وقصدت بصيغتها وحروفها لجرسها وإيقاعها ،
فلا يتأدى معناها وإيحاؤها وجرسها إلاّ بها وحدها. وهذا سر من الأسرار الدقيقة
التي تتجلى بها عظمة القرآن وأمجاده المعجزة .
إذا استطلعت كتب التفسير وجدتها ثرية ببيان المناسبات بين الآيات والسور
القرآنية . فإذا لاحظت أن كلمات الآية الواحدة رائعة التجانس والتجاذب ؛ وأن آيات
السورة الواحدة متينة التشابك والترابط ؛ وأن سور القرآن متناسقة متناسبة ؛ أدركت
يقينا أن الذكر الحكيم كتاب إلهي كامل بديع السمت ) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم
يتقون ( [6]
اقرأ المعلقات الشعرية
وغيرها من آثار الأدب الجاهلي تجد ألفاظها لا تنفك من غريب مستنكر أو وحشي مستكره
ومن معان قاصية ، وكما تجد فيها الكلام البليغ والمتوسط تجد أيضا الكلام الوضيع
المبتذل ، الذي بلغ الغاية في تدني الرتبة . وقد قدم الإمام الباقلاني عليه رحمة
الله تحليلا لقصيدة امرئ القيس انتقده فيها نقدا مراً [7] يكشف عن الهفوات الشنيعة ، ويدل بالتالي على قصور القدرة البشرية عن
مجاراة بلاغة القرآن ، فقد سهل الله سبيله ، وبرأه عن وحشي الكلام ومنكر غريـبه ،
ونزهه عن التكلف في الصنعة ، فجاء سلسا ، ينساب كالماء الزلال ؛ قريبا إلى
الأفهام، يسبق معناه اللفظ إلى القلب فيستقر ، ويغزو النفس فيتمكن . احتوى المعاني
الجمة العظيمة مع سهولته ويسره وعذوبته . فعز مطلب مثيله على البشر وامتنع ، فلم
يطمع أحد بالظفر بمداناته أو القدرة على مثله [8]
وإنما ينبئ الكلام عن مقام صاحبه ويدل على مكانة متكلمه , وأنت تتعرف على صدقه
أو ريائه في كل غرض من أغراض كلامه . ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن متعمل
متصنع كان كافيا في الدلالة على مداجاته وكذب عاطفته . فيدل على سمو عواطفه
وإنسانية مشاعره . وذاك الفرزدق يكاد يخبر عن نفسه أنه زير نساء ، ونظمه في الغزل
فج لا يستعذب ، فيدل على وضاعة مشاعره وبلادة أحاسيسه وتحجر فؤاده .
فالفرزدق مع كل ما أبداه قد فضحه شعره وأثبت أنه لم يعرف للحب معنى ولم يذق له
طعما . وأنت تحس لقول المتنبي :
الخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم
من الواقع في القلب ما تعلم به أنه أهل الفروسية والشجاعة . ولا تحس بمثله
لقول البحتري :
وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي
بعقر قسٍ
والمشرفية شُهَّدي
والقرآن أعلى منازل البيان ،وقد جمع وجوه الحسن وأسبابه :
من روعة النظم وحسنه وبهجته ؛ وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان ؛ ووقوع
ألفاظه ومعانيه في النفس موقع القبول والإجلال ؛ وتصور المشاهد حتى يحل محل
البرهان والدليل ، إلى غير ذلك من المزايا ؛ مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة
. فسما بيان القرآن فوق كل بيان ، فصار له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس
ما يدهش ويبهج ؛ ويقلق ويؤنس ؛ ويطمع وييئس ؛ ويحزن ويفرح ؛ ويشجي ويطرب؛ ويبعث
على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ؛ وهكذا ...
فالقرآن بنفسه يدل على قدر مُتَكَلِّمِهِ
، ويخبر عن مقام منزله ، كما ينبه على عظيم شأنه وقوة إعجازه ، فيثبت لكل عاقل صحة
رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق نبوته .
4- خطاب العقل والقلب بآن واحد:
لكل أسلوب
طريقته الخاصة ؛ فالأسلوب العلمي أو الفلسفي يعنى بخطاب العقل وحده ، والأسلوب
الأدبي نثرا ونظما يغلب عليه الاعتناء بخطاب القلب وإثارة العاطفة ، أو يخاطب
القلب تارة والعقل تارة أخرى .
لكن أسلوب القرآن العظيم يتميز بأنه يخاطب الإنسان عقلا
وقلبا ووجدانا بآن واحد .
فها هي الآيات العلمية تعرض حقائق الكون وروعته ودقة قوانينه ونظمه وانضباط
أجرامه واتساق أجزائه ومجراته ، لتسمو بك إلى النظر والتملي في عظيم قدرة الله
وسعة علمه وباهر إبداعه في ملكوته الشاسع . تأمل هذا النص القرآني :
) قل الحمد لله وسلام على عباده
الذين اصطفى ، آلله خير أما يشركون ! ؟ أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من
السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ! أإله مع
الله ! ؟ بل هم يعدلون . أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها
رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ، أإله مع الله ! ؟ بل أكثرهم لا يعلمون . أمن يجيب
المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ! أإله مع الله ! ؟ قليلا ما
تذكرون . أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته !
أإله مع الله !؟ تعالى الله عما يشركون . أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من
السماء والأرض ! أإله مع الله ! ؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ! ! قل لا يعلم
من في السموات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان يبعثون( [9]
تحدث النص عن السموات والأرض ليلفت النظر إلى القدرة الإلهية العظمى التي
قامتا بها ...
حقائق كثيرة متعددة عرضت بالبرهان العقلي الدامغ قضية الإيمان بالله وضعف الشر
وعبوديتهم ؛ وخضوع الكائنات وتسخيرها رحمة بالبشرية ؛ وما فيها من جمال وإبداع
وإحكام . وعرضت لعالم الشهادة وعالم الغيب . ويشير ذلك كله إلى القدرة الإلهية
الخلاقة العظيمة العادلة الحكيمة ، التي قضت ببعث الموتى يوم الحساب. كل ذلك في نص
واحد متصل متسق عذب كالسلسال .
وبهذا الامتياز المعجز حقق القرآن غاية عظمى من غايات الدعوة وأهدافها ،هي أن
خاطب عقول العامة وامتلك نواصي أفئدتهم ، وخاطب الخاصة بإشراق ديباجته وحسن منطقه
وقوة استدلاله الملزم المفحم .
5- سمو الأسلوب القرآني في الأغراض
العلمية :
إن البليغ المفصح والشاعر المفلق والخطيب المصقع ليختلف أسلوبه باختلاف
الأغراض ، فبعضهم يجيد في الوصف دون الغزل ، وغيره يبرع في الحماسة والفخر، وغيره
عند الرغبة أو الرهبة ...
لكن القرآن الكريم قد تصرف في موضوعات عديدة متفاوتة ؛ من قصص ووعظ وحجاج وحكم
ووعد ووعيد ... وتحدث عن الألوهية والعبودية والكون والإنسان ، ومع كل هذا
فإن أسلوبه ظل في المنزلة العليا فصاحة وبلاغة . ولا يخفى عليك أن اختيار الألفاظ
البارعة للمعاني الجديدة أعجب وألطف من إيراد اللفظ البارع في المعاني المتداولة .
هذا نص تشريعي تحدث في شأن مالي هو الدَّيْن والرهن ، فتأمله مليا ً، قال
تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم
كاتب بالعدل ، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله، فليكتب ، وليملل الذي عليه
الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا
أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ( [10]
تلحظ دقة الصياغة وتساوق النغم مع الفكرة التشريعية وتسلسلها إلى الخاطر .
لاحظ مثلا قوله : ) تداينتم بدين ( فإنك لا تستطيع أن تستغني عن كلمة
) بدين ( لأن الضمير سيعود عليها بعد قليل ) فاكتبوه ( فوجدوها في مكانها في
النص ضرورة حساسة .
ثم تأمل كيف أخذ الله بناصر الضعيف وهو المدين وجعله سيد الموقف فلا يستضعف
ولا يهضم حقه : ) وليملل الذي عليه الحق ( وحفظ بذلك حق الدائن ، لأن الإملاء من
المدين إقرار صريح بالحق المترتب عليه دون لبس أو احتمال ، وفي ذلك حكمة تشريعية
إلهية ظاهرة .
ثم قال تعالى ) واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتين ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، ولا يأب
الشهداء إذا ما دعوا ، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، ذلكم أقسط
عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم
فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ، وأشهدوا إذا تبايعتم ، ولا يضار كاتب ولا شهيد ،
وإن تفعلوا فإنه فسق بكم ، واتقوا الله ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليم (
أمر الله بإشهاد شاهدين ، وبين الحكمة من إشهاد اثنتين من النساء بما يتناسب
مع الغريزة والاهتمامات المختلفة بين الجنسين ، حتى إذا وقعت إحداهما في النسيان
ذكرتها الأخرى , وحذر الله الامتناع عن الشهادة بعبارة موجزة غزيرة المعنى )ولا
يأبى الشهداء إذا ما دعوا ( فإنها تشمل المدعوين لتحمل الشهادة واستحفاظها عند
كتابة الحق ، كما تشمل المدعوين لأداء الشهادة حين يقع الخلاف بين المتعاقدين .
وهذه العبارة في الواقع نموذج من إعجاز الإيجاز في القرآن .
ولو تتبعنا دقة النظر والتأمل في أحكام هذه الآية المباركة وما فصلته وبينته
بشأن الدين والمداينة والكتابة والاستشهاد في أسلوب شيق رفيع ، يلامس شغاف القلوب
، ويثير نوازع الإيمان ، ويقوي مراقبة الله تعالى في تصرفاته ، ويذكره أن الكون
كله والإنسان في الجملة في قبضة هيمنته وأنه آيل لا محالة إلى حسابه عن كل صغيرة
وكبيرة وخفية وظاهرة .
6- جاذبية النغم القرآني :
لقد جمع أسلوب القرآن البياني بين مزايا الشعر والنثر جميعا ، ومن هنا كانت
جاذبية النغم القرآني خصيصة عظمى من خصائص القرآن ، تبرز آثارها للعيان
حين نرى تعلق الأعاجم في عصرنا بالقرآن وحفظهم له وكثرة تلاوتهم دون أن يفقهوا
بيانه ، ولهذه الخصيصة دور كبير في زماننا في استمالة أسماع المتعلقين من أصحاب
الديانات الأخرى وأفكارهم .
وما من لحن موسيقي أو نغم شعري إذا طال أو تكرر إلا أورث سامعه السأم والملل ،
وضعف تأثيره فيه ، لكن قارئ القرآن أو المصغي إليه في نعيم منه وابتهاج بأنغامه
المتنوعة المتجددة ، تهتز لها أوتار قلبه . فالقرآن لا تنقضي عجائبه ولا
يخلق على كثرة الرد ، كما أخبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم . ففي كل آية
تناغم داخلي بين كلماتها ، وفي كل نص قرآني تناغم بين آياته وفواصلها .
وإن بين النغم والنظم في القرآن من التآلف والاتساق ما جعل النغم يؤدي وظيفة
بيانية هامة في أسلوب القرآن .
فليست النغمة القرآنية مجرد صوت منسجم ، بل إن لها صلة بالمعاني ، وتشارك
النغمة في جلاء المعنى حسا وفكرا ، حيث يأتي جرس ألفاظ القرآن ونغم سياقه مؤتلفا
مع معانيه متعاضدا معها في أداء الإيحاءات والآثار النفسية والوجدانية تآلفا دقيقا
، ستظل المواهب الإنسانية تعجز عن بلوغه .[11]
7- براعة القرآن في تصريف القول وثروته في
أفانين الكلام :
يورد القرآن الكريم الغرض الواحد
بألفاظ متعددة وطرق مختلفة ، ويتسم
بيانه في جميعها ببراعة
فائقة ، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء ، ولسنا هنا في سبيل
الاستيعاب والاستقراء ، ولكنها أمثلة تهديك ونماذج تكفيك ؛ منها تعبيره عن طلب
الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية:
1-
الإتيان بصريح مادة الأمر نحو قوله سبحانه : ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها ( [12]
2-
والإخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين ، نحو ) كتب عليكم الصيام [13](
3-
والإخبار بكونه على الناس ؛ نحو ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
( [14]
4-
والإخبار عن المكلف بالمطلوب منه ؛ نحو ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
( [15] أي مطلوب منهم أن يتربصن .
5-
والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره ؛ نحو ) ومن دخله كان
آمنا ([16] أي مطلوب من
المخاطبين تأمين من دخل الحرم .
6- وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر ؛ نحو ) حافظوا على الصلوات
والصلاة
الوسطى ( [17] أو بلام الأمر ؛نحو ) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم
وليطوفوا بالبيت العتيق ([18].
7- والإخبار عن الفعل بأنه خير)
ويسألونك عن اليتامى ، قل إصلاح لهم خير( [19]
8- ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر ، نحو ) ولكن
البر من اتقى ([20] .
9- ووصف الفعل بالفرضية ؛ نحو) قد علمنا ما فرضنا عليهم في
أزواجهم( [21] أي من بذل بالمهور والنفقة .
10- وترتيب الوعد والثواب على الفعل ؛ نحو ) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
فيضاعفه له وله أجر كريم ( [22].
11- ترتيب الفعل على شرط قبله ، نحو ) فإن أحصرتم فما استيسر من
الهدي( [23]
12- إيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام ؛ نحو) أفمن يخلق كمن لا يخلق
أفلا تذكرون ( [24] أي فليتذكروا .
13- وإيقاع الفعل عقب ترج ؛ نحو ) ولعلكم تشكرون ([25]
14- وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل؛ نحو ) ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون ( [26]
8- جمع القرآن بين الإجمال والبيان :
وهذه عجيبة أخرى تجدها
في القرآن ولا تجدها فيما سواه ن ذلك أن الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع
لتأويل ؛ ,إذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام أو الإلباس أو إلى اللغو الذي لا يفيد ،
ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد .
وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف والملامسة والإحكام والخلو
من كل غريب عن الغرض ؛ ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كد خاطر ولا استعادة حديث
، كأنك لا تسمع كلاما ولغالت بل ترى صورا وحقائق ماثلة . وهكذا يخيل إليك أنك قد
أحطت به حبرا ووقفت على معناه محدودا . هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه
بإزاء معنى جديد، غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة ، وكذلك ..
وهذا مثال موجز نقدم تحليله لإيضاح هذه الخصوصية ، وهو قوله تعالى : ) والله
يرزق من يشاء تغير حساب ( [27] . فانظر هل ترى كلاما أبين من هذا في
عقول الناس ! ؟ ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة ! فهي تحتمل وجوها كثيرة كل
منها تحتمل وجها من وجوه الصحة .[28]) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا
هنالك وانقلبوا صاغرين( [29